نقرأ في سِفرِ المزامير "الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا[2]، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً[3]". هذا ما معناه أنَّ الملائكة يُنفّذون أوامرَ الله بسُرْعة كالرياح، ويَتنقَّلون بِخِفَّة كبيرة، فلا نَشعر بِهم ولا نَراهم.

أمّا مِن ناحية أنَّهم خُدَّام فَخِدمَتهم مُتفانية، لأنَّهم مُلتَهِبون كنارٍ آكلة في عُشقِهم لله ووفائِهم له.

في تَحذير الرَبِّ لكُلّ مَن تأتي على يَدِه العَثرات، وكلّ مَن يَحتَقِر صِغار الرَّب الذين يَعشقونه مِن كلّ كَيانهم، قال عن مَلاَئِكَة هؤلاء الصغار: "إنّهم "فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ[4]".

النَّظْرُ في كلّ حِين إلى وَجهِ الآب، يعني ألّا نَعشَق سِواه، وأن نَرميَ خَلفَنا كلَّ عَظمةٍ زائفةٍ وفَانية، مهما عَلَت. هذان شرطان أساسيّان للامتلاء مِن النور الإلهيّ النَقيّ الذي هو المَجد الحقيقي.

مَن عَشِقَ وَجَه الآب اشتعل قلبُه بِه، وتَرجَم هذا الاشتعال خِدمَةً صَادقةً تَسيرُ في مَسيرة التَجسّد الإلهيّ الذي تمَّمَهُ الرَبُّ مِن أجل خَلاص البَشريّة. فإنَّ قيمةَ الخِدمة تَتَجلّى بِقدرِ ما تَمتَدُّ هي إلى الآخرِ بِصِدقٍ وشفافيةٍ ومَحبَّة.

عاشِقو وَجَه الله هُم أناسٌ تَحرّروا مِن عِبادة الأنا القاتلة، وباتوا كالملائكة يُلهِبونَ قُلوبَنا بِحضورٍ إلهيٍّ أقام لهُ مَنزِلًا في قُلوبِهم.

هُم دائِمًا مُتأهِّبون لخدمة كلِمة الله المُقدَّسَة والمُقَدِّسَة، ويُردِّدون بِشكلٍ مُتواصلٍ: "الله يَرانا".

وجُوهُهُم نَضِرة فَرِحَة نُورانِيّة وفَتيِّة لا تَشيخ، مُتَجدِّدة دائمًا بالروحِ القُدس، تَمامًا كمَا تُصَوَّر وُجوهُ الملائكة في الأيقونة: شابّة وفتيّة.

هؤلاء العاشِقون مِن الناسِ لَهُم جَناحان: الصَّلَاَةُ والعَمَل. يُصَلّون بِلا انقطاع، ويُترجِمونَ صَلاتَهم أعمالًا مُقَدَّسة. ولا ننسى مَلامحَ التأهّب والخِدمة والقُوّة والرُجولة البارزة على وجُوهِم كما على وجوهِ المَلائكة، لأنَّهم شُجعانٌ بِالحَقِّ والعَدلِ والاستِقامة. هُم أشِدّاء يَمتَلِكون صَلابةَ القِدِّيسين المُجاهدين، وفي الوقتِ نَفسِهِ عِندَهُم بَراءة الأطفال "الصِغار".

نَرى في أيقوناتِ المَلائكةِ أنَّهم يُرسَمون بِشَعرٍ مَربوطٍ ومشدود، مِمّا يَدُّلُ على إحدى عَلامات المُحارِبين. كذلك عاشِقو المَسيح، فهُم مَشدودون بِشوقٍ كبيرٍ إلى كَلِمَة الحَقّ، ومُحارِبون شُرفاء مِن أجلِ تَحقيقِ الإنجيل.

كما أنَّ الصَّوْلَجَانَ في أيدي المَلائِكة امتدادٌ لَلسُّلطَة الإلَهيّة، كَذلِك هوَ الصَّوْلَجَان في أيدي عاشِقيّ يَسوع، فهُوَ مِن أجلِ تَحقيقِ السُّلطَة الإلهيّة العادِلة، لا المُتَسَلِّطَة والمليئة بالأهواء المَريضة والدفينة في عُمقِ النَفسِ المَسجونة خَلفَ قُضبان تَمجيد الذَّات.

هوَ صَولَجانٌ ليَجمَع لا ليُفَرِّق، على صُورة صَولَجان الرَّاعِي الأوّل الرَّب يَسوع المسيح، الذي يُحبّ خِرافه، وليس على صُورة صولجان الذِّئْب الذي يَفْتُكُ بِهم. فسُلطَة صَولجان الراعي ليست مِن سُلطانِه الذَّاتيّ، بل مِن سُلطَان الرَّب الذي سَيَسأله عنها في اليومِ الأخير. مِن هنا نقرأ في سِفرِ الرؤيا أنَّ الله دعا المِطْرانُ "مَلاكًا"(رؤ ١:٢).

مُشتهانا أن نَكونَ مِن هَؤلاء العُشّاق، فإن أُلهِبْنَا بِنارِ المَسيح أوّلًا، نُلْهِبُ كلّ مَن نَلتقي بِه، حينئذٍ نَتحوّل إلى رُسلٍ للمَسيح.

إنَّ لفظة "ملاك[5]" تُعرَف في اللغة العربيّة بكلمة "لأك"، أي "أرسل". وفي اللغة العِبريّة، فكلمة ملاكُ تشير إلى "المُرسَل من الله". هذا ما يُخبِرُنا بِه أيضًا العَهد الجديد: الملاك جبرائيل أُرسِلَ مِن الله ليُبَشِّر مريم العذراء.

كما يُوجد في لُغَتِنا الشعبيّة فِعل "لاءاك"، الذي يعني: "التقى بِك".

إنَّنا مدعوّون لِتحقيق "اللقاء والبِشارة" مَعًا: نَلتقي بالآخرين فيَتِمَّ "اللقاء" بِالمسيح ونُلهِبَهُم بِه.

هذا ما حَصَلَ مع تِلميذَي عِمواس عندما لاقهما المَسيح... وعَرفاه عِندَ كَسرِ الخُبز... وانفتحت أعيُنهما فــَ "قَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: "أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِبًا فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ[6]"؟.

يبقى لنا أن نَعرِفَ ما إذا كانت قُلوبُنا حَقًّا مُلتَهِبَة بِعُشقِ الله، أم بأشياءٍ أخرى يَمقُتها الرَّب ويَرفُضها!

قَد نِجِدُ مَع الأخوَين قايين وهابيل الجَوابَ على ذلك[7]: كَان الأخُ الأصغرُ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَكَانَ قَايِينُ عَامِلًا فِي الأَرْضِ. قَدَّمَ قايينُ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ، وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ ومن سِمانِها. فقال الرَبُّ لقايين: "لم تُقَسِّم باستقامة. أما خَطِئْتَ؟"، أيّ إنَّكَ لم تُقسِّم بالصواب. إذ إنَّ قايين لم يعطِ للهِ الأوْلوِيّةَ مِثلما فَعلَ هابيل الذي أعطاه أفضلَ مَا لَدَى مِن "أبكار غَنَمِه وسِمانها"، والذي قدَّمَ بذلك قلبَه لله. فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، وَلكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ.

رَفْضُ الرَبِّ لتَقدِمَة قايين جَعلَه يغتاظُ جِدًّا، ويَسقطُ وَجه الأخير إلى التراب[8]. هذا ما تَفعله الخَطيئة فينا، فإنَّها تُظلِمُ وُجوهَنا وتَسقُط. بينما عاشقو المَسيح ينظرون مَجْدَ الرَبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوف[9].

أعلمَ اللهُ قايينَ أنَّهُ يَستطيع النُهوضَ مِن جديد، إن أحسنَ النَظر إلى وجهِ الرَّب. إلّا أنّه لم يفعل! وبَدَل أن يُصلِحَ نَفسَه غَدرَ بِشقيقِه وقَتَله.

صحيح أنَّ هابيل قُتِل، إلّا أنَّهُ لم يَمُت إلى الأبد. فالكنيسةُ تُصَوِّرُه مَع القدِّيسين في أيقونَةِ "نُزول الرَّب إلى الجَحيم"، المَعروفة شعبيًّا بـِـ"أيقونة القيامة"، بينما قايين يذكُرُهُ التاريخُ كمِثالٍ لِلغَدرِ والحَسد.

ظنّ قايين أنَّه نَجا بِفِعلَته، والأسوأ مِن ذَلِك، حاولَ التَملُّصَ مِن جَريمته، عندما سألَهُ الرَّبُّ: "أَيْنَ هَابيلُ أَخُوكَ"؟، فَأجابَه: "لا أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي"؟. عِندها قالَ لَهُ الله: "مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ".

نَعم، وبِكُلِّ تأكيد، نَحن حُرّاس بعضُنا لبعضٍ، وكلامُ الرَّب هذا لقايين هو كلامٌ مُوجَّه إلى كلِّ واحدٍ مِنّا.

نِهاية، يَدعونا القدّيسُ يوحنّا الذهبيّ الفم قَائلًا: "لِنتُركِ الأرضَ ونَصعدْ مَع الرَّب إلى السَّماءُ". هذا تَمامًا ما نُشاهِدُه في الجِزءِ العُلويّ مِن أيقوَنَة الصُعود الإلَهيّ.

فحياتُنا إمّا تَكون صُعودًا كَملائِكَة الرَّب، هذا إذا نَظرنا كُلَّ حِينٍ إلى وَجهِ إلَهِنا، وهُنا يَتِم الشِّفاء، أو أن تَكونَ سُقوطًا شَنيعًا كَملائِكَة إبليس إذا عَشِقنا وَجهَنا التُرابيّ، وهُنا يُزدادُ المَرَض.

إلى الرَبِّ نَطلُب.

[1]. اليوم الثامِن مِن شَهر تِشرين الثاني هو عيدٌ جامعٌ لرَئيسَي الملائكة ميخائيل وغفرئيل وسائر الطغمات العادمي الأجساد.

[2]. كلمة "رياح" هي نفسُها كلمة "روح".

[3]. مزمور ٤:١٠٤ وكذلك الرسالة إلى العبرانيين ٧:١

[4]. متى ١٠:١٨

[5]. المحيط الجامع في الكتاب المقدّس والشرق القديم – ٢٠٠٣ - الخوري بولس الفغالي – ص ١٢٣٨.

[6]. لوقا ٣٢:٢٤

[7]. تكوين ٤

[8]. "فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ. فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «لِمَاذَا اغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟»" (تكوين ٥:٤-٦)

[9]. ٢ كورنثوس ١٨:٣.